حب على عتبة القلب:
الظلام حالك، و البرد قارس والسماء تغدق أمطارها، وذلك الرجل الجامح غضبا، خرج مسرعا نحو سيارته، ثم اتجه الى بيت غريمه. وقد حاول خداعها بتصنّع الندم كي لا تمنعه من الثأر لكرامته المجروحة. وفي الطريق المظلم اخذته الافكار، واحتار إن كان ما سيقدم عليه صحيحا، وهل عليه الانسحاب من وسط هذه المعركة، قبل ان يلطّخ يديه بالدماء، أم أن عليه التخلص مِنْ مَنْ خدش كبريائه، ورماه على عتبة قلب حبيبته. ركن السيارة على جانب الطريق، ونظر حوله وإذ بالمطر يزداد غزارة، أسند ظهره على كرسيه، وأمال برأسه متّكأً، غاشيا بيده على وجهه، يده التي أُسدلت نحو عنقه، وكأنه يختنق من شدة الحنق…
مشى تحت المطر بخطواتٍ تتسارع تارة، وتتباطأ أخرى، يريد أن يراه، يريد ان يعرف من الذي سلب منه أغلى ما في قلبه، يريد أن ينهي هذه القصة، وأن يطفئ لهيب غضبه، غير انه يودّ لو يعود من حيث أتى ويختبئ خلف أبواب الندم، خلف الأخطاء التي ارتكبها والتي كانت سببا في ما وصل إليه من معاناة.
دخل الى المبنى الذي يقطن فيه ذلك الغريم، الا ان أفكاره استوقفته من جديد، نظر حوله يفكر جيدا قبل ان يصل لباب القبطان، يفكر هل من الصواب ان يواجهه بفعلته، أم ان حفظ الكرامة يكمن في الانسحاب! تعبٌ هو، يجاهد مليّا في التفكير، يصعد السلالم ببطءٍ مفرطٍ، مستمعا لأصوات الكبرياء الحائر، وأصوات العذاب الأليم، والضمير الذي لطالما تقاعس عن تذكيره بزلاته المتراكمة على رفوف اللامبالاة.
دق الباب، الّا ان احدا لم يفتح له، فعاود المحاولة. كان الغضب صاحبه، وكان صوت المطر يتعالى مع ضجيج الافكار. انتظر في صمت يضج بالصمت المربك، بين انين الكبرياء وحطام النفس الموجع. ومن بين ذلك الهدوء المزدحم بأصداء الكلمات والمواقف، والاحداث المريبة، سمِعَ صوتَ خطواتٍ تقترب نحو الباب، فأيقن انه هو، أدخل يده الى جيبٍ في معطفه ونزع مسدسا؛ فما إن فُتِح الباب، حتى وجّهه نحو جبين القبطان، والنيران تكاد تتّقد من عينيه الثائرتين، فعرفه القبطان بمجرد النظر إليه، فقال له: "هل تظن ان بفعلك هذا، ستقضي على الحب الذي يجمع بين قلبينا؟ ان ما تحاول فعله لا يزيد عن زيادة زلاتك زلّة…"
ارخى الزوج ذو الكبرياء المحطّم يده قليلا، ورد عليه بغيظٍ كظيم: "وهل لك أن تعيش بعد أن حللت بيني وبين من أحب؟"
-لا تلم احدا على هفواتك، فهذه نتيجة لهوك بعيدا عن ما تدّعي انه لك! وأظن انه من الطبيعي حصول هذا!
-وهل من الطبيعي ان تسلب ما هو لغيرك؟ وهل من الطبيعي ان تصنّف تصنيف المتلاعب؟
-ومن ذا الذي يحق له تصنيفي؟ هل تظن ان لمثلك الحق بهذا؟ انت الذي جعلت تلك المرهفة تخوض الوحدة الموحشة وحدها، وادخلتها في دوامة من الحزن الشديد والعذاب الموجع! انت ايها الأناني قد حطمت كل جميل فيها! أما انا قد احببتها جدا واردتها ان تحبني لا غير!
وبعد هذه الكلمات، وجه مسدسه من جديد نحو القبطان. الغضب يشتّد بداخله، والحقد يأخذ اشتعالا، وما ان اراد الضغط على الزناد، تعالى صوت الرياح وصفيرها، المصحوب بدوي الرعد الهزيم، وقطرات المطر الغزيرة؛ ازدادت الاصوات حدةً، وازدادت الرياح قوةً، وازداد الغيظ حنقا، حتى استيقظت من غفوتها مذعورة، لتنظر حولها فتدرك ان الشمس شارفت على الشروق، وانها في شرفتها، نائمةٌ على مقعدها، وقد غلبها النوم، فهرعت تبحث عن زوجها في انحاء المنزل لتجده نائما في سريره، فوضعت يدها على قلبها المرتجف خوفا، وأغمضت عينيها، محاولةً إحتواء انفاسها، ثم هوت على الارض منهارة القوى، منهارة من هول ما رأت في منامها، ورغم انه مجرد كابوس مفزع، الا انه كان يقصّ قصّتها مع ذلك القبطان، مختصرا كل العوائق التي حالت بينهما. زواجها، ترددها، محاولات اللقاء التي باءت بالفشل، كلها عراقيلٌ من نسج الواقع، غير ان الحلم منّ عليها بلحظة لقاء خادعة تفيض أحاسيسا رقيقة، ثم اكتملت القصة كالكابوس، وكأن الاقدار ارادت ان تعرض عليها مستقبل حكايتها، وكأن لهذه الحكاية نهاية واحدة محتمة.. اخذت تعيد ما رأت، وتتساءل كيف لحلم أن يكون بهذه الواقعية؟ وكيف لكابوس أن يبدأ كالحلم الجميل؟ كيف له أن يبدأ لحظة مجيئ حبيبها الى مّنزلها؟ و هل لحلم ان يستهلك طاقتها لهذا الحد؟ وهل لذلك العناق المكتظ بالمشاعر ان يكون حلماً؟
يا له من قدر ظالم، قد جار على عشق بات معذبا، وحرّم على شابة عاشقة ان تنظر حبيبها، حبيبها ذو العينان الجميلتان، الذي أسر روحها وشغف قلبها، و حرّم على فؤادها السعادة، وعلى ثغرها الابتسام، وكأن لهذا القدر رأي مغاير، وكأنه غير منصف كنوائب الدهر القاسية، فقد ترك الحب مشتتاً بين الآمال والاحلام، ينتظر اللقاء الذي لا يحدث سوى في الاحلام، يا لحسرة قلبها الذي عاش على عتبة الاحلام، منهك النبضات، قلبها الذي لطالما خفق بين الحزن والجوى، خفقانا محرقا حتى أصبح رمادا..
وكم تتمنى لو طال المنام و بقيت معه في أجمل حلم تحت ضوء القمر، وكم تودّ لو تراه حقّا، فتفرح عيناها للقياه، وتضمه اليها، وتغدق عليه بالاشواق، والكلمات.. كل ما باستطاعتها فعله هو محاربة الايام للتحرر من قيودها، والبقاء على حبه، بانتظار يوم يجمعها به، وان تجعل من قلبها منزلا، منزلا لن يدخله أحد غيره وان طال هجره، ستظل تنتظر على عتبة قلبه، حتى يذكرها، علّ الاقدار تنعم عليها بنهاية مرضية لحكايتها، وعلّ الدهر ينصف قلبها بعشق كثيرا ما لاح بين الآفاق منتظرا، وعلّ قبطان القلب يرأف بحالها، ويلزم الحب قلبه كما يلزمها...
👉رجوع - الجزء الثاني 👈
تعليقات
إرسال تعليق