:اذكر يوما كنت فيه توأما هاربة
اذكر مرة كان الفراق متخذا حيزا بينهما، لا ادري كم طالت المدة تحديدا، فقد كانت ايامها تمر كالسنين من هول ما مر عليها من عذاب كهاربة، اذكر انها جلست تكتب مذكراتها و الدمع يفيض من عينيها، تبكي لوعة و قلبها يتوقد حرقة، و روحها تتوق لروحه و نفسها لنفسه مشتاقة، و فجأة انتفضت من مكانها واخذت الاوراق و همت مسرعة وحرقتهم، حرقت كل ما كتبت عنه، و هي تبكي و تصرخ دون ضجيج، دون صوت، ثم نثرت الرماد على امل النسيان، و انهارت خلف النافذة حزنا، تناشده قائلة: " ألا امر بخاطرك كما تمر؟ الا تشتاق يا نصف الروح لروحك المعذبة؟ "، قالت الكثير ثم عادت لتجلس على الكرسي، متكئة بيدها على طاولة امامها، واخذت بالشرود، و الدمع ما زال في عينيها يتأرجح، فما لبث ان رن هاتفها اشعارا، فنظرت نحوه بنظرات مريبة، كانت على يقين انه هو، ولكنها لم تحرك ساكنا، ثوان معدودة و هي تترقب، تتأهب للحديث والثواني تطول و تطول عليها، تفكر هل هو حقا؟ ماذا يريد مني؟ هل ارد ام اهرب منه و اقفل هاتفي؟ مشت نحو الهاتف الذي يبعد عدة امتار بخطوات بطيئة، و كأن الوقت متوقف عندها، مشت و مشت و ضربات قلبها تزداد و خطواتها تصبح ابطأ، مشت و عيناها تنظران للهاتف، حتى اخذته بيدها و كان هو بالفعل، يرسل اليها سلاما لقلبها و اشواق لروحها، و حدثها عن حب لا ينساه، و لكنها رغم كل الآلام و الآهات و الاشجان الا انها ايت كعادتها السابقة ان تنصاع لحبه، و ان تعترف بأشواق في القلب منزلها.
و اذكر عدد المرات التي حاول ان يفهم منها حقيقة مشاعرها، و عدد المرات التي واجهها بحبها الذي تخفيه عنه، و عدد المرات التي رحل فيها بسبب نكرانها للعلاقة، و المرات التي طلب منها اللقاء، او سماع صوتها، او الحديث اليه، ولكنها كانت تهرب وتهرب و تأبى ان تعي الحقيقة انه نصفها، لطالما قال انهم روحا واحدة، لطالما قال ان اللقاء مقدر، و انه شعر بذلك منذ اول حديث دار بينهما، و هي مهزوزة النفس غير مدركة لما تفعل، غير مدركة سبب هروبها و خوفها منه، على الرغم من كماله و الانجذاب الذي يأخذها إليه.
اذكر انها كانت تعيش حياة غير الحياة، بواقع مغاير غير واقعنا، ربما كانت روحها تهيم في ابعاد اخرى، في المجهول حيث تلتقي بنصفها، كان هناك متسع من الوقت للعذاب و الآلام، وللخوض في أعماق الروح و المشاعر. عاشت بمفردها تقلبات و تخبطات، ترنحت و تأرجحت، و طرحت قتيلة العشق مرارا، احبته كما لم تحب احد، و عاشت روحها بقربه لحظات ليست كاللحظات، لا احد يعلم حقيقة ما مر عليها كهاربة ثم كمطاردة، و لا احد يدرك ما عصف بها من اشواق، ومن القى بها متيمة بعشق يلوح في المجهول. لم يكن لها من الاصدقاء سوى المعارف، فلم يكن لها الشجاعة ان تتكلم، و لا ان تصرح بما يجول بداخلها. ان تلك الشابة خاضت اشد التجارب بأسا و قسوة على الروح و تفانت في عشق رجل مطارد، ثم تألمت لحبه هاربا، ربما هو تسليم، و ربما تطهير و ربما يسمى بتبادل الطاقات او الادوار، الا انه عذاب مضاعف، و ارتقاء للروح عميق، بعد استنزاف و جراح و مواجهة للنفس، يعكس الحقائق كما تعكسها المرآة.
و اما هي فبعد ان كانت هاربة و اصبحت مطاردة، باتت تتفهم ما يحدث له من تقلبات، و ان كل ما يمر به الآن ما هو الا مرحلة و ستمضي، ولكنها لم تنسى ان هناك حقيقة ما زالت تترنح بين الكذب و المنطق، حقيقة غير واضحة بعد. أضحت تبحث عن مستقبل مزدهر و تنتظر توأمها الذي ما زال هائما في الآفاق يتشافى. تراه بقربها وكأنه امامها حقا، تراه في احلامها و في صحوتها، تستيقظ ليلها باحثة عنه، تشتاقه و تعيش على امل اللقاء، مدركة انه سيعود يوما الى منزل بناه بين اضلعها.
كم لاحت على اطراف العذاب بحب تمايل الما بين هروب و مطاردة، بين حالتين متفردتين قاسيتين الملامح، فعلّ احدا من التوائم، لا يظن بتوأمه ما ليس فيه، فإن الهارب يقاسي و المطارد يتعذب، و ان كلاهما يعاني من جراح و آلام و استنزاف و من الجوى و العشق و الشجن، وان كل منهما يسكن روح الآخر، و قلبه و يمضي و في فؤاده حبا أزليا غير مشروط، ليكون عشقا يلوح في الافاق متيما هائما نحو التعافي و الاتحاد والكمال .
و في اليوم التالي عادت لتكتب مذكرات لذكريات ولت، ذكريات لم تبصر النور بعد، و قد جاء فيها:
تعليقات
إرسال تعليق